وتبقى مشكلة التغيرات المناخية هى الشغل الشاغل لكل شعوب العالم قاطبة، لما لها من تداعيات خطيرة على مستقبل البشرية جمعاء.. وقد بدأنا فى العدد السابق من منتدى البيئة فى استعراض وثيقة لتقييم التغيرات المناخية التي تعرضت لها منطقة المتوسط، والتى تؤثر بشدة على جهود وسياسات التنمية المستدامة للدول المتوسطّية، وعلى الرغم من الحاجة الماسةّ إلى التخفيف من هذه المخاطر إضافة إلى النظر في خيارات التكيفّ، إلا أنهّا تفتقر حالياً إلى المعلومات الكافية خاصة بالنسبة لدول جنوب المتوسط الأكثر تأثّراً بالتغيرات المناخية وذلك نظراً لمحدوديةّ خطط المراقبة المنهجية ونماذج التأثير، وت بُذل حالياً العديد من الجهود والمساعي لتجميع المعرفة العلمية التي تهدف إلى توفير فهم أفضل للمخاطر مجتمعة عبر جهود شبكة الخبراء المعنيةّ بالتغيرّات المناخية والبيئية في منطقة البحر المتوسطّ بدعم من الاتحاد من أجل المتوسطّ UfM ومركز الأنشطة الإقليمية للخطّة الزرقاء Bleu Plan مركز الأنشطة الإقليمية التابع لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة/ خطة عمل البحر المتوسط والتي أسفرت عن تلك الوثيقة التى نواصل استعراضها فى هذا العدد...
وتواجه هذه النظم البيئية تحّديات غير مسبوقة بسبب التغيرات المناخية والبيئية الناتجة عن الأنشطة البشرية كالاستغلال المفرط والتلوث والتغيرات في استخدام الأراضي والبحر، ممّا يجعل معظم الخدمات التي تقدّمها عرضة للخطر.
فبالنسبة للنظم البيئية البرية يُعدّ حوض المتوسط أحد النقاط الساخنة فيما يتعلّق بالتنوّع البيولوجي فحيث تُعتبر منطقة حوض المتوسّط موطناً لما يقارب 290 نوعاً من الأشجار مقابل 135 نوعاً فقط في بقية أجزاء القارة الأوروبية غير المتوسطية، كما أنها تعتبر موطناً للعديد من الأنواع المستوطنة من النباتات والحيوانات الموجودة فقط في منطقة جغرافية واحدة.
وتلعب الغابات دوراً مهماً في امتصاص الكربون، حيث تمتص كميات أكبر من الكربون مقارنة مع الكميات التي تطلقها. وإذا تم الحفاظ على ارتفاع متوسّط درجات الحرارة العالمية في نطاق الدرجتين المئويتين عمّا كان عليه قبل انطلاق الثورة الصناعية، فمن المتوقّع أن تكون معظم غابات البحر المتوسط قادرة على مقاومة الاحترار العالمي باستثناء بعض المواقع الصنوبرية.
ومن المرجّح أن تتأثر الغابات والأراضي الرطبة والنظم البيئية الساحلية في حوض المتوسّط بالتغيّر المناخي المرتبط بدرجات الحرارة الشديدة والجفاف.
أما النظم البيئية البحرية فيعدّ البحر المتوسط أحد النقاط الساخنة تجاه التنوّع الحيوي ويحتوي على نسبة تتراوح بين 4 و 18 ٪ من الأنواع البحرية المعروفة في العالم، وهذا ما يعطيه أهمية كبيرة حيث أنّه يمثّل مساحة لا تزيد عن 0.8 ٪من سطح محيطات العالم، كما تعتبرمنطقة المتوسّط أيضاً نقطة ساخنة للتغيرات العالمية، حيث يؤدّي ارتفاع درجات حرارة مياه البحر المتوسط إلى حدوث تغييرات في تشكيل الأنواع ووفرتها، وبشكل عام فإنّ الأنواع التي تعيش في المياه الباردة تصبح أقل وفرة أوتختفي في حين يزداد عددالأنواع التي تعيش في المياه الدافئة وهذا ما يؤدّي إلى حدوث تجانس في الكائنات الحية المتواجدة في البحر المتوسّط لصالح أنواع المياه الدافئة
وقد تمّ حتى الآن تحديد ما يزيد عن 700 نوع من النباتات والحيوانات البحريةغير الأصلية في البحر المتوسط، والتي يفضّل الكثير منها الظروف الأكثر دفئاً، وقد قام ما يزيد عن 600 نوعاً منهابإنشاء تجمعّات حيوية خاصّة بها في البحر المتوسّط. وترتبط الأنواع ببعضها البعض في جميع الأنظمة البيئيّة عبر شبكة الغذاء، ونتيجة لذلك فإنّ أي تغيير في وفرة نوع واحد يمكن أن يكون له تأثير كبير على الأنواع الأخرى وقد يكون هذاالتأثير غير عكسي
ونظراً لموقعها الخاص بين اليابسة والبحر، فإنّ النظم البيئية الساحلية شديدة التأثّر بالمناخ والتغير البيئي، كما تؤثّر الأنشطة البشرية مثل التوسّع العمراني والسياحة بشكل كبير في هذه المناطق أيضاً. ويؤثّر التلوث الكيميائي أيضاً على هذه النظم البيئية حيث تمّ تحديد إجمالي 101 نقطة ساخنة وحساسّة تجاه التلّوث فى البحر المتوسط، تقع عموماً في الخلجان شبه المغلقة بالقرب من الموانئ والمدن الرئيسية والمواقع الصناعية
المياه العذبة.. والأراضي الرطبة
وتتأثّر النظم البيئيّة للمياه العذبة في البحر المتوسط والأراضي الرطبة الداخلية بانخفاض مستويات المياه وتراجع جودتها، ويؤدّي تغيرالمناخ إلى زيادة التعرّض لخطر الفيضانات إضافة إلى حدوث زيادة في تذبذب تدفقّ المياه؛ نتيجة لذلك يتمّ إنشاء المزيد من السدود ممّا يؤثر بدوره على النظم البيئيّة للمياه العذبة، هذا وتتجلّى استجابات الكائنات الحية في حوض البحر المتوسط للتغيّرات الحالية في المناخ في حدوث تغيير في أماكن وجودها حيث تزداد هجرتها عبر التيارات المائية للبحار شمالاً ممّا يتسبّب في حدوث تغيير في تكوين مجتمعات الكائنات الحية يقود عموماً إلى حدوث تجانس في الأنواع وفقدان التنوع الحيوي
كما تأتي الأراضي الرطبة في البيئات الجافة ضمن «النقاط الساخنة » تجاه التنوّع البيولوجي والإنتاجية كما أنّ أنظمتها البيئية معرّضة لخطر الانقراض في حالة انخفاض الجريان السطحي وجفاف الأراضي الرطبة
صحة الإنسان
تهذا وللتغيّرات البيئية – خاصة المناخية – آثار مباشرة وغير مباشرةعلى صحّة الإنسان. وتشمل الآثار المباشرة تلك المرتبطة بارتفاع درجات الحرارة وزيادة الأشعة فوق البنفسجية والجفاف وغيرها من ظواهر الطقس المتطرّفة مثل العواصف والفيضانات. كما يمكن أن تتسببّ الحرارة في المرض أو الوفاة عندما لا تسمح درجات الحرارة المحيطة المرتفعة المرتبطة بالرطوبة النسبية العالية للجسم بتبديد حرارته بشكل طبيعيوعلى الرغم من أن معظم سكان البحر المتوسط معتاد بشكل نسبي على درجات الحرارة المرتفعة، إلا أنّ زيادة شدةّ وتكرار موجات الحرارة المترافق مع حدوث تغييرات في موسميتها سوف يؤديّ إلى تعريض السكان إلى مخاطر صحية كبيرة ولا سيّما الفئات السكانية الضعيفة بما في ذلك الفقراء الذين يعيشون في ظروف محفوفة بالمخاطر وبإمكانية محدودة للوصول إلى المساحات المكيّفة
الأمن البشري
وتهدّد التغيرات المناخية والبيئية، وكذلك عدم الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، الأمن البشري بطرق متعددّة. ويذكر أنه تمّ بناء مايقارب 40 ٪ من الشريط الساحلي في منطقة حوض المتوسّط بحيث أصبح يعيش ثلث السكان – أي حوالي 150 مليون شخص- بالقرب من البحر، كما أنّ البنية التحتية عادة ما تكون قريبة من متوسط مستوى سطح البحر نظراً لقلّة العواصف ومحدودية نطاق المد والجزر نتيجة لذلك، يؤديّ ارتفاع منسوب مياه البحر والعواصف والفيضانات، إضافة إلى عمليات التعرية وهبوط مستوى التربة إلى حدوث تأثيرات واضحة في المدن الساحليةّ والموانئ والبنية التحتية الساحلية إضافة إلى الأراضي الرطبة وشواطئ منطقة البحر المتوسط
وتعدّ القدرة التكيفية لجنوب وشرق البحر المتوسط بشكل عام أقل من المناطق الشمالية وذلك يعود إلى مجموعة من العوامل الاقتصادية والاجتماعية مما يجعلها معرضّة بشكل خاص لهذه الآثار السلبية، كما تقع المناطق المعرّضة للمخاطر الشديدة في جنوب وشرق البحر المتوسط بما في ذلك المغرب والجزائر وليبيا ومصر وفلسطين وسوريا، كما سيؤثرّ ارتفاع منسوب مياه البحر بمقدار متر واحدعلى ما يقارب من 41500 كيلومتر مربعّ من الأراضي في دول شمال إفريقيا، ممّا سيلحق ضرراً بما لا يقلّ عن 73 مليون شخص أي ما يعادل 11 %من عدد السكاّن
ويشير تقييم المواقع المدرجة في قائمة التراث العالمي لليونسكو في المناطق الساحلية للبحر المتوسط والمعرّضة لخطر الفيضانات والتعرية بسبب ارتفاع منسوب مياه البحر بوجود 37 موقعا ثقافيا معرضّا لخطر حدوث الفيضانات على مدار 100 عام من الفيضان، كما أنّ هناك 42 موقعا معرّضا لخطر الانجراف والتعرية. وتشير الدراسات أنه ومع حلول عام 2100 ، يمكن أن تزداد مخاطر الفيضانات بنسبة ٪ 50 وخطر التعرية بنسبة 13 ٪ في جميع أنحاء المنطقة
وخلص التقييم إلى أن التحليل الأوّلي قد أظهر أن هناك مخاطر كبيرة وجوهريّة مرتبطة بالتغير المناخي والبيئي في حوض البحر المتوسط، وهناك إجماع كبير وعلى نطاق واسع على أن القضايا المرتبطة بتخفيف التغيرات البيئية والتكيف مع الآثار التي يمكن تجنبها تشكّل أولوية لصنّاع القرار في القطاعين العام والخاص المعنيين بمستقبل تغيّر المناخ. كما أن الجهود المبذولة في أنشطة البحث وبيانات الرصد والمعلومات الناتجة عن التغيّرات المناخيّة ليست منسّقة بالشكل الكافيوتعد اتفاقية برشلونة إطارا قانونياً ملزماً يشمل مجموعة من الآليات والسياسات وخطط العمل للتصدّي للتحّديات والمشكلات المشتركة والمتمثلة في تدهور البيئة وحماية النظم البحرية والساحلية للبحر المتوسّط
وقد اعتمد الاجتماع الدوري التاسع عشر لمؤتمر الأطراف المتعاقدة في اتفاقية برشلونة في فبراير 2016 استراتيجية البحر المتوسط للتنمية المستدامة للفترة 2016 – 2025 كوثيقة ذات توجّه استراتيجي لجميع أصحاب المصلحة والشركاء في تنفيذ أجندة التنمية المستدامة للأمم المتحدة 2030 – خطّة عام 2030 ، على المستويات الإقليمية ودون الإقليمية والوطنية، حيث توفّر تلك الاستراتيجية إطاراً سياسياً متكاملاً لضمان مستقبل مستدام لمنطقة البحر المتوسط يتوافق مع أهداف التنمية المستدامة
كما تنظر استراتيجية البحر المتوسط للتنمية المستدامة إلى تغيّر المناخ على أنّه قضية ذات أولوية للتنمية الاجتماعية والاقتصادية وتوليه أهمية كبيرة في تحقيق الاستدامة البيئية في منطقة حوض المتوسّط، كما تدعوإلى زيادة المعرفة العلمية وزيادة التوعية وتطوير القدرات التقنية والمضي قدماً نحومنطقة خضراء منخفضة الكربون ومقاومة للمناخ في حوض المتوسّطكما تساهم شبكة الخبراء المعنيّة بالتغيّرات المناخيّة والبيئيّة في منطقة البحر المتوسّط بشكل مباشر في تنفيذ هذه المبادرة الرئيسية. وتعد لجنة البحر المتوسط للتنمية المستدامة هيئة استشارية تدعم الأطراف المتعاقدة في اتفاقية برشلونة في دمج القضايا البيئية في برامجها الاجتماعية والاقتصادية وتعزيز سياسات التنمية المستدامة في منطقة البحر المتوسط كمنتدى للحوار وتبادل الخبرات. وتعمل شبكة الخبراء المعنيّة بالتغيّرات المناخيّة والبيئيّة في اتجاهين متكاملين؛ التقييم العلمي السليم علمياً لتغيّر المناخ وآثاره في حوض البحر المتوسّط بالاستناد إلى البحوث المنشورة، وكذا بناء واجهة إقليمية للعلوم والسياسات حول المناخ والتغيّر البيئي في البحر المتوسّط